فصل: المسألة الأولى: (في النوع الثالث من شبهات الكفار وكلماتهم في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية فقال: صدق ربنا، ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله خير أعمالكم بالليل والنهار والسر والعلانية.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {ثم جعلناكم خلائف} لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
قوله تعالى: {لِنَنظُرَ}: متعلق بالجَعْل.
وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة وتشديد الظاء. وقال يحيى: هكذا رأيته في مصحف عثمان يعني أنه رآها بنون واحدة، ولا يعني أنه رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشكل الخاص إنما حَدَث بعد عثمان. وخرَّجوها على إدغامِ النون الثانية في الظاء وهو رديءٌ جدًا، وأحسنُ ما يقال فيه: إنه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النون الساكنة فظنَّه السامع إدغامًا، ورؤيتُه له بنونٍ واحدة لا يدلُّ على قراءته إياه مشددَ الظاء ولا مخفَّفَها.
قال الشيخ: ولا يدلُّ على حَذْفَ النون من اللفظ. وفيه نظرٌ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوبًا في المصحف الذي رآه؟
وقوله: {كَيْفَ} منصوبٌ بـ {تعملون} على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملون، وهي معلِّقة للنظر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
عرَّفناكم بِسِرِّ مَنْ قَبْلَكُم، وما أصابهم بسب ذنوبهم، فإذا اعتبرتم بهم نَجْوتُم، ومن لم يعتبرْ بما سمعه اعتبر به من تبعه.
ويقال أحللنا بهم من العقوبة ما يعتريكم، ومَنْ لم يعتبرُ بِمَنْ سَبَقَه اعتبرْ به مَنْ لَحِقه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (15):

قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته.
وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى.
أتبع ذلك عطفًا على قوله: {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} بقوله بيانًا لذلك: {وإذا تتلى} بناه للمفعول إيذانًا بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان.
وأبداه مضارعًا إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة {عليهم} أي على هؤلاء الناس {آياتنا} أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا {بينات} فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد، ويجوز عطفه على {ثم جعلناكم خلائف}- الآية- والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة، والموصول بصلته في قوله: {قال الذين لا يرجون لقاءنا} في موضع الضمير تنبيهًا على أن هذا الوصف علة قولهم، ولعله عبر بالرجاء ترغيبًا لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير.
فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال {ائت} أي من عندك {بقرآن} أي كلام مجموع جامع لما تريد {غير هذا} في نظمه ومعناه {أو بدله} أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصًا على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك.
ولما كان كأنه قيل: فماذا أقول لهم؟ قال: {قل ما يكون} أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه {لي} ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال: {أن أبدله} وقال: {من تلقاء} أي عند وقِبَل {نفسي} إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به، فأنتج ذلك قطعًا قوله: {إن أتبع} أي بغاية جهدي {إلاّ ما} ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال: {يوحى إلي} أي سواء كان بدلًا أو أصلًا؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكدًا لإنكارهم مضمونه: {إني أخاف} أي على سبيل التجدد والاستمرار {إن عصيت ربي} أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي {عذاب يوم عظيم} فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم، وإذا خفته- مع استحضار صفة الإحسان- هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}
فيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في النوع الثالث من شبهات الكفار وكلماتهم في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم]:

اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها.
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.

.المسألة الثانية: [في استهزاء الكفار بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن]:

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن.
الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال: {إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات: {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ} وفيه بحثان:
البحث الأول: أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر، منكرين للبعث والقيامة، ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه: الأول: قال الأصم: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي لا يرجون في لقائنا خيرًا على طاعة، فهم من السيئات أبعد أن يخافوها.
الثاني: قال القاضي: الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع، لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه، لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب، وهو القصد بالتكليف، لا يخاف أيضًا ما يوعده به من العقاب، فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور.
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم، إلا أن البيان التام أن يقال: كل من كان مؤمنًا بالبعث والنشور فإنه لابد وأن يكون راجيًا ثواب الله وخائفًا من عقابه، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث.
فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة.
البحث الثاني: أنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أمرين على البدل: فالأول: أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن.
والثاني: أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال، لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره، فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن، وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئًا واحدًا.
وأيضًا مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما، وهو قوله: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر، كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلًا.
والجواب: أن أحد الأمرين غير الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتيانًا بقرآن آخر، وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمة آية عذاب، كان هذا تبديلًا، أو نقول: الإتيان بقرآن غير هذا هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب.
مع كون هذا الكتاب باقيًا بحاله، والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب.
وأما قوله: إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين.
قلنا: الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني.
وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني.
وإنما قلنا: الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه، لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر سائر العرب على مثله، فكان ذلك متقررًا في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن، فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا.
والثاني: أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن، فجوابه عن الأسهل يكون جوابًا عن الأصعب، ومن الناس من قال: لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن، وجعل قوله: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ} جوابًا عن الأمرين، إلا أنه ضعيف على ما بيناه.

.المسألة الثالثة: [في سبب إقدام الكفار على هذا الالتماس]:

اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، مثل أن يقولوا: إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك، وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير.
والثاني: أن يكونوا قالوه على سبيل الجد، وذلك أيضًا يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان، حتى إنه إن فعل ذلك، علموا أنه كان كذابًا في قوله: إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله.
وثانيها: أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم، وهم كانوا يتأذون منها، فالتمسوا كتابًا آخر ليس فيه ذلك.
وثالثها: أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله، التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر.
وهذا الوجه أبعد الوجوه.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول: إن هذا التبديل غير جائز مني {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى.
ويتفرع على هذه الآية فروع:
الفرع الأول: أن قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} معناه: لا أتبع إلا ما يوحى إلي، فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد.
الفرع الثاني: تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: دل هذا النص على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالنص.
فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] الفرع الثالث: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن ذلك منسوخ بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية.
الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن قوله: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} مشروط بما يكون واقعًا بلا توبة ولا طاعة أعظم منها، ونحن نقول فيه تخصيص ثالث.
وهو أن لا يعفو عنه ابتداء، لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر. اهـ.